جنان في سطور




إذا كان ميلادُ شاعرٍ في القبيلة قديماً عُد عيداً، لما له من دورٍ محوري في رفع ذكرها عالياً والذيد عن حياضها بحد الكلمة، فإن ولادة صوت نسائي في عالمنا الشعري المعاصر ليس بأقل من ذلك، فظهور الشاعرة جنان كان بمثابة دماء جديدة تُضخ في شرايين الشعر العربي. وعلى الرغم من أن عمرها في شهادة الميلاد الشعرية لم يتجاوز الـ 16 عاماً، فقد كانت هذه الفترة بالغة الأثر في تعزيز التجربة الجمالية في القصيدة العربية بشقيها الكلاسيكي والحديث

 

فالمتتبع لشعر جنان يكتشف دونما عناء أنه أمام تجربة شعرية انطبعت بثنائية لا انفصام لعُراها هي: السلاسة الشعرية والعمق الإنساني. إذ تستشرف بحس الشاعر المتمكن التراث الشعري العربي القديم وتجتهد في استجلاء جذور الحالة الأدبية والجمالية الحديثة، الأمر الذي يظهر جلياً في قصيدتها "متوسط بين الحشا"، والتي أعادت فيها رسم خارطة الأنواع الشعرية بعيداً عن الانتماء لأي مدرسة شعرية، مُفضلةً تشكيل الأنماط التعبيرية الخاصة بما يخدم أغراضها الشعرية في تمجيد القيم الجمالية الإنسانية

 

إلا أن هذا لا يعني أن جنان تعيش في عزلة شعرية، فلولا قصائد المتنبي وابن زيدون وابن الفارض، وفتاة العرب وخالد الفيصل، لما تفجرت ينيابيع شعرها بكل ما فيها من طاقات تصويرية وإيمائية، ولما بدت كلماتها غضة كأنها تُقطف للتو من بستان الحكمة والجمال، الأمر الذي يؤكد سعيها للحفاظ على "الأثر" وهو القيمة الحقيقية لكينونة الشعر

 

إن الاستقراء الشعري لقصائد جنان يرسخ الانطباع بأنها تشكل حالة شعرية استثنائية، ومنبع هذا الاستثناء هو إيمانها بأن الشعر رسالة ينبغي أن يصل صداها للجميع وألا تكون حكراً على النخبة، لذا فهي في خياراتها الشعرية ميالة لبساطة التعبير وعمق المعنى لدرجة يظن معها المتلقي أنها تحيد اللغة ليبقى الإحساس سيد الموقف مع نذرٍ يسير من الرمزية البعيدة عن أي تعقيد، مبدعةً عوالماً تبنض بالحياة يستكشف القارئ مكامن إنسانيته فيها، فالصوت الأعلى عندها هو للإحساس والمعنى. وتتجلى هذه الجزئية في جميع قصائدها: كالتقيته، يحكي من عيونه وغيرها

 

وسجلت جنان أيضاً اسمها في دواوين الشعر النبطي بعددٍ من القصائد الوجدانية الذاتية، فقد كان لانتمائها الخليجي أثره في تكوين ذائقتها الشعرية، مع احتفاظها بخصوصية شعرية أتاحت لها التميز عن الأقران تمثل في دورها البارز بتعميق غنائية القصيدة النبطية، الأمر  الذي يبرز واضحاً لا لُبس فيه في قصيدتها "شفتك تبدل"، حيث الشفافية الشعرية تصل لأوجها في مشهد يتطور فيه الإيقاع الشعري باحساس عالٍ يعكس قدرة الشاعرة على تطويع الكلمة وتحويلها إلى صورة تتشكل فيها أعمق المضامين الشعرية والإنسانية على حدٍ سواء

 

وقد عُرف عن الشاعرة جنان أنها لا تحبذ استخدام كلمة القارئ، وتفضل المتذوق لأن الشعر بالنسبة لها حالة إنسانية راقية تعبر عما يدور في خلجات النفس ودهاليز الروح الإنسانية. لذا فهي تدق باب الشعر بوصفه أداة تعبيرية تعكس صورة وجدانية بالغة التعقيد بألفاظ بسيطة، كما هو الحال في قصيدة "الحلا بك" التي جاءت ككيان شعري غنائي تام الأركان يترجم حالة الهيام التي يعيشها الشاعر

 

ويتلمس المتذوق لشعر جنان طاقة إبداعية هائلة توجهها حالة الإدراك الشعرية العميقة، فقد تخطت في قصائدها حدود الوزن والقافية للوصول إلى أجمل المقاصد الإنسانية من خلال القفز برشاقة بين صور الانفعالات العاطفية التي تتواتر بدرجات متعددة وأطوار متكاملة تخلق أمام المتذوق فضاءات رحبة يشعر معها بأنه قد استعار صوت الشاعرة، التي تتلاشى بين الكلمات، وأن الأصوات المنبثقة من أبيات القصيدة هي من ابتكاره وإبداعه، وأنه يسمع صدى صوته في ثناياها

 

إن المتذوق لشعر جنان، ومنذ الوهلة الأولى، لا يحتاج إلى التفكير ملياً ليكتشف أنه أمام صوت أنثوي يمجد قيم الجمال والحب، فما هو إلا بيت واحد حيث يشتم رائحة عطر نسائي تفوح من أوزانه وقوافيه، تسيطر عليه وتخدر حواسه مانحةً إياه تجربة جمالية ذاتية نابعة من سلطان الكلمة ورهافة الحس، فكانت نغماً استهوى عمالقة الفن من أمثال: راشد الماجد، مروان خوري، أصيل، وليد الشامي وغيرهم

 

ربما يكون التكوين النفسي والثقافي للشاعرة جنان من حبٍ للموسيقى والتصوير والرسم يكاد يصل لدرجة العشق أثره في انطباع شعرها بهذا الكم الهائل من الأحاسيس المرهفة والجياشة، ومحاولتها كسر الاستعصاء للصورة الإنسانية بتوظيف الكلمة الرشيقة والمعنى العميق

 

ولم تتوقف عبقرية جنان عند حد كتابة الشعر وانما تعدتها لخوض غمار فن الخط العربي لا سيما الخط الاندلسي  الذي تلقته على يدي استاذها القدير الأستاذ محمد مندي لتجمع بين عبقريتين... عبقرية الشعر العربي والفن الاندلسي. ..بكل تلك المواهب أصبحت جنان اسطورة عصرها




الرئيسية | جنان في سطور | القصــائــــد | مقالات | التسجيلات | أخبار جـنان | قراءة في ديوان جنان | اتصل بنا