سالابونا



 


سالابونا

اليوم أيقَنت وبعد كسَل طَويل في تَدوين مذكرات وذكريات لي ،قد تكون تاريخ جميل ركَنَته الأيام على قرعات الطريق، فعَلَينا أن نَحتَويه ونَصُوغَه في حُلّة جميلة تستحق الجمال الذي تركَت بَصمَتَه لنا بَين تِلك الأزِقَّة والقُرى المعتقّة الحالِمة.

قبل ما يقارب التسعة أعوام أي في عام ٢٠١٠ ذَهَبت لإستكشاف سواحل الشمال الشرقية لدولة اسبانيا والتي تمتد من بشلونه حتى الحدود الفرنسية و يُطلق عليها سواحل الكوستا برافا . أُحِب التِرحال والاستكشاف مُذ خُلِقت، وقد أكون قد  تأخّرت في التَدوين ،ولكنّي عاهَدت نَفسي في هذا اليوم أن أدوِّن كُل ما يستَحِق أن يُحفَظ ما بين صفحات الزمان الخالدة..

الكوستا برافا، تُعتَبر هي الجزئ الجنوبي من الإقليم الكاتالوني المُعتَد بِنَفسه.. والإسم مُشتَق من كلمتين كاتالونيتين ،الكُوستا هي الساحل والبرافا أي البري او الجامح بمعنى آخر . شعبه يتميز بدماثة الخلق والكرم واللطف وحُب العَيش، وهم لا يَبعدون سوى ستون كيلومترا عن مدينة برشلونه الغضَّه الراقِصه على أنغام عَزف جيتارها الإسباني المأخوذ بالجمال والجنون.

 تَمتَد على سَواحلها العديد من  القُرى الجميلة المتناثره على ذلك الساحل الذي سَحَرنا بأمواجه الهادئة بِحَجمها الكَبير،  وتناثر تلك المطاعم والمقاهي والمِحال الصغيرة التي تَقتَني منها ما تجعله ذكرى لِتاريخ رَحَلاتك ومحطَاتك الجُغرافيه الرقيقة، التي إن لَم تَحتفظ لها بِخَتم تَضَعه على بَرَّادك كما إعتَدت أنا في جَمعِه، فقَد تَنسَاها وتنسي ذكرياتها الجميله إلا إذا دوَّنت ما حدَث من لَحظَات يجب ان لا يَهدُرها الزمن المتَسَارع بِخَطَواته، ولكأن العُمر في سِباق مَاراثوني مُلهِث .

الحَديث عن هذه الأماكن يطول، ولكن ما أردت تَدوينه تلك الحَادثة الجميلة التي كانت لي في إحدى قرى الكوستا برافا، وتدعى توسا دو ماري ، لقد دَلَفنا هذه القرية الجميلة التي تُمَيزها قلعة قد عهدت تفاصيلها بطراز إسلامي ولكن قرأت عنها في تاريخهم أنها تَعود لزَمن العَهد الكَنَسي الذي حكم أوروبا في العُهود الوسطى.

 ذَهبنا مع الرِفاق لِنَعتلي أعلى نقطة في تلك القلعة المُطِلة على سِحر البحر المتوسط ،مَكَثت هناك في شُرفتها لحظات وانا أتأمل المَنظر الذي شَغَفني برونقة، فَعَاد بي الزمان مِئَات السنُون وخِلت من جَال في هذا المَكان وكَم عُشّاق تلاقَوا وكم من الفِراق قد طَوي سِنين من الهوى والوَجد..وكم من أحدَاث وبَشر وعُهود وحَديث،، خِلت الهَمس واللُّغات والمُوسيقي كلّها تَمازَجت وتَناغَمت وإرتَجّت في خَلَجَات صَدري ،حتى كِدت أسمع صَوت طُبول هَرَج ومَرَج ووُجُوه وأشبَاه خِلّان، حتى إنتَبهت وإستيقَظت من خَيَالاتي وبُرهَتِها بِصَوت إحدَى الرِفاق أيقظني و طَلَبت مِنّي أن نَكتَشف تِلك القَلعة المُتعالية ونَزَلنا في طريقِها الّلولبي ،وإذا بِمَمر جانبي يأخذنا إلى زِقاق خِلناه قد إنتهى قبل أن يبتدئ، ليس بِه  إلا بَقايا مَطعم قديم على يَدِنا اليُمنى يَرتفع بُشرفة قد غطّتها أغصَان  العِنب المتثَاقلة من منتُوجاتها الذي لم تُقطَف، ويسَار ذلك المطعم الشَعبي لَفتَت نَظري سيّدة في عَقدها الخَامس تَقريبا تَرتَدي بَزَّة خَضرَاء عِشبِية وبِنطَالاً أبيض وتَلِف منديلاً حَول عُنقِها وكان خَلفها باب عَتيق يعود  لمرافق الاسطبلات  تلك القلعة  على ما أظن لأنّها مُنفصِله عن المَبنى الرَئيسي وأبوابها القزِمة. كان مَنظَر المرأه لا يتناسب كُلياً مع قِدَم المبني الذي تَستند اليه .. رحَبَت بنا فأهتمَمت لأمرها مما جعلني أغَيّر وِجهتي من المَطعم الذي غَزاه الرِفاق لِتَناول وَجبة الغَداء في ذلك اليوم الصَيفي الحَار من شهر يوليو.. حيّيتها  وردّت التَحية بأجمل مِنها وشاهَدت خَلفها لَوحات زَيتيه  وقلبي عاشقا للفن وإبداعَاته.. دَلِفت البَاب الخَشبي الضَيّق المُتهالك الذي لم يُناسب طُول قَامَتي فإنحَنيت وإذا بِي في قَبو صَغير يَميل جوّه للبُرودة القَارِسه مُعتم الإضَاءة لا تَكاد تَرى ما هو حَولك.. فردّت السَيدة دون سؤال حين رأت علاَمات التَعجّب قد بدَت على وجهِي تَظهَر: نعم المكان بارد لأنه يُعتبر مخَازن للقلعة تُستخدم في قديم زمانه، وفي الداخل
هُناك غرفة تَليها يُوجد بها بئر القرية الذي كان  مصدر الماء العذب البارد لتلك القرية ..المهم أن جَالت عيناي في حنايا ذلك المكان وإذا بلوحات زيتيته متراكمة مُسندة على تلك الجدران العَتيقه  .. نظرت للطاولة وإذا هناك كتاب كبير عليه صورة شاب أربعيني يحمل جيتارا بين يديه ،سألتها أهذا هو الرسّام أجابت تلك السيدة الأنيقه نعم إنه هو،، ولأنني وجدت الصورة من نتاج تفكيري وتحليلي أن مَلبسه وتسريحته تَعود  لزمن الستينات سألتها: أهو على قيد الحياة. أجابت نعم إنه زوجي ونَقطن معه في الطابق العلوي من هذا القَبو الصغير، وفي الأعلى مرسَمه هذا هومَتجَره وإسمه سالابونا من أهل هذه القرية ويرسم شِعَابها وشَعبَها وهَمسَها.. جالت نواظري في أعماله التي تضُم وجُوهاً عاشِقة وأخرى مهمُومة وبَحر ومَوج وخُبز وضِفاف ونَاي وأوتار لَحن قد تركته السُنين يعزف لحنا خالداً على أمواجه الكَسلَى.. رغِبت في أكثر من عمل من أعمَاله وماهِي إلا لَحظَات حتّى نَزَل  الرَسَام سالابونا وحيَّانا وإذا به ما يُقارب الثمانون عاما أو اكثر وهذا في حد تَخمِيني.. كنت أرى العِشق يُراقص عَينَي زوجَته التي تصغره كثيرا،ولكنّها حسبما أحسَست تضَع من الحَجم تقديراً وكِبراً  لأعماله التي كانت هي تشرح لنا كل تفاصِيلها ،أما هو فكانت الإبتِسامة لا تُفارق مُحيَّاه.. أحسَست بِشعور غَريب وجَميل ودَدت اللّحظات لو أنّها تطُول ،وإستَنبَطت ذلك الحُب الذي لَفّ  روحيهما، وكنت أحتاج أن أُطيل، ولكن خَجلت وسَحبت أذيال تساؤلات الهوى التي لطالما إنشغلت بسحر الحروف في مفاتيح معجم الهوي الذي أقتنيه.. إخترت من أعماله ثلاث قِطع، وحملهُن بيَديه المثقلتين ،وذهب للغرفة الصغيرة التي بها البئر وبرودتها تكاد تدخل في لب العظام، ودعَاني لأُشاهده وهو يُوَدِع أعماله الغالية بِطُقوس رقيقة حيث أنّه إتّخذ من فَم البئر الطاولة الخشبية التي يفترش عليها أوراق تَجليد أعماله، وكنت أخال إذا تهاوى الخَشب وتهَاوت الأعمال مَعَه وأنا على يَقين أنّ سالابونا قد أحكَم وَضع الألواح ولكن خَيال الشاعر قد يَمتد لأبعد الحدود،، المهم أن السيد سالابونا لَفّ عرَائِسه كما أطلق عليهن بأوراق مُنتقاه وعمل لهُن مِقبض ليستطيع الحَامل لها أن يحمِلها بشكلها اللائق، ولا أنسى حِين قاربنا الخروج ندَهت إلينا زوجته بعدما إلتَقطنا صُورة عائلية جميلة للذكرى... فقالت سيدتي رجَوتك أن توقعي هنا على هذا الدفتر الذي يخص أعمال السيد سالابونا وتتعهدي بالإهتمام بتلك الأعمال وأن تَكتبين الى أين وِجهَتها، لأنّنا ،تعني هي وزوجها ،نعتبر هذا الأعمال أطفالنا فنريد أن نعرف الى أين ستَمضي فلذّات أكبادنا فمنها من هو الآن في سان فرانسيسكو وطوكيو والصين والأرجنتين وغيرها من دول العالم .. فهمَست لها: سيدتي إن هذه الأعمال ذاهبة لديار ستُقدرها ستُخلدها إني سأعلّقها على جُدران بَيتي الجديد في دبي،،، وعلقتها كما وعَدتها في بيتي الصغير وجعلت أتذكر تلك السيدة بألوان هندامها الزاهية التي تدل على حبها للحياة ونظرتها الإيجابية لها.. وتعود الايام وبعد مُضي ما يقارب الأربعة الأعوام أقرر أن أذهب ثانية لتحِية تلك الأسرة التي حفَرت ذِكرياتها في مُخيلتي.. وذَهبت إلى توسا أتقصّى خُطى الأمس باحثة عن الباب الصغير العَتيق لم أجِده فقُلت إحدى المفاتيح هو ذلك الزقاق الجانبي وبما أن القلعة هي أهم المعالم لتلك القرية فلن نتُوه، فلا شك بذلك ،، فوجَدنا الزقاق ،، وأين المطعم وما إن وصلت نهاية الدرب الذي ينتهي قبل ان تبدأه حتى وجدت بقايا ذلك المطعم الذي تهَالكت اطرافه واذا بعناقيد العنب قد طوَتها السُنون وما بَقِي إلّا ُغبَار تناثَر على طاوِلات مهجُورة ، حزِنت عندما رأيت ذلك المنظَر المهجُور، واذا بِنَادل شاب يتقَدّم إلينا مرحِبا كعَادة الشَعب الإسبَاني المُحب، فرددنا السَلام وشكَرناه على  حُسن تِرحَابة وما إن توجّهت إليه بالسؤال: كان هُنا يوجد مَعرض صغير لرسام يُدعى وقبل أن أتم الحديث قال أتقصدين سالابونا فأجبته نعم قال: لقد توفي قبل ثمانية أشهر، فشَدَهت لِوَهلة من هَول الخبر وحزِنت على زَوجته التي كانت تَشُع حُبّا وعِشقا من عينيها ، فكيف بقِلبها الذي التَهب لِحبه ولفنّة قد إنفطر،، فسألت وأين زوجته : فهَز ذلك النَادل رأسَه حُزنا لقد بكَت عليه حُزنا وأغلقت المحل مذ رحَل، ورحلت هي دُون عَودَه،،، نظَرت لباب المحل الذي كُتب عليه للبيع،، ومكثت طَويلا وأنا أنَاظره وقلت لِنفسِي رِحلة عمر وإنطوَت وقُلِبت صفحة الزمان الى قصص جديده  وأشخاص جُدد،، رَحلت يا سالابونا ولكن فنّك لايزال مخلّدا على جدران من عشقوا فنّك الدافئ المُتواضع.. وضَعت زَهرة عند باب مرسمِه ورَحلت تاركا لنا  ذِكرى ذلك الفنان الذي ربَطَتنا به لحَظَات من العُمر القصيرة..
 


 

 


الرئيسية | جنان في سطور | القصــائــــد | مقالات | التسجيلات | أخبار جـنان | قراءة في ديوان جنان | اتصل بنا