براغ



كم إنتظرنا وجئنا نحييك يا مدينة العتق والجمال.. يا عالم الكريستال السحري من بوهيميا إلى موسيرز الذي حضينا بزيارة معالم سحر فنه في حفر اللوحات العالمية على وجوه صفحات الكريستال المتلألىء..

أعواما ونحن ننتظر ...حتى أذن الرب ووطأنا أراضيك الجميلة.. مبانيك التي تملأ أزقتك ولكأنها كتب تاريخ مفتوحة لزائريها.. تحتار العين أين تنظر فجمال الفن المعماري تصبِح عليه العين ..وكأنه قوس قزح بتدرجات ألوانه السماوية.. أحتار!!  كيف لهذه الدولة الاشتراكية عن قرب.. أن تكون بهذا الفن المعماري المميز..

إسم الملك تشارلز الرابع يصدح بين طرقاتها.. الجسر الذي حمل إسمه والذي بناه ..تحفة معمارية .. تقطعه وأنت مبهور من جمال التماثيل التي على أرجائه في النهار.. وجمال الإضاءة التي تراقصه في المساء..

سحر ولذة للناظرين.. كم قطعته وأنا أردد أبيات  من شعر الخيال.. وكم خلت عليه من عناق وقبل لعاشقين طواهم الزمن وترك آثار أقدامهم وقبلهم على جنباته..

يقطع هذا الجسر الحالم نهر الفالف المتمايل بحسنه وكأنه عذراء تستحي في خدرها..

نركب ذلك القارب  الذي يرينا جمال النهر وملامحه في رحلة تسمى فينيسيا براغ.. كان يمشي الهوينا ..ولكأنه يمشي بسرعة اللاسرعة.. كدت حينها أن آخذ المشوار سباحة أو أن أجرّ القارب بيديا لأسرع من بطئه.. منظر المقاهي والمطاعم والمحال على جنباته بها من روعة الحسن ما تنسيك بطء القارب البليد..

في ساحتها القديمة وهو الجمال الذي يحليها ..تجد الحياة والحركة والفرح.. وتشاهد أكلاتهم الشعبيه التي يطهونها على مرأى من العيون... .. البطاطا المحمصة التي تلف بأوراق لولبية ..النقانق.. والخبزة المفضلة لديهم الملتوية على أعناق المشاوي وتدعى تردلنيك.. جمال ذلك المربع هو روعة العاصمه فمن لم يزره لم يزر براغ العاصمة.. مكتظة هي بأناسها وسياحها..

في تجوالنا زرنا المدينة الحديثة ومبناها الراقص الذي يعتبر وجهة سياحية لها .. صمم على شكل  فتاة ترتدي فستانا قصيرا وفتى يراقصها.. .جمال التفنن في الهندسة المعمارية بين القدم والتحضر يزيد روعة المكان..

 

لا أنسى ذلك الشاب العجوز في محلها الذي كان ككتاب تاريخ كبير ولكأنه جعبة قديمة مملوءة بأسرار الكون.. نحدثه ونسأله عن التاريخ ولا ينتهي من السرد الجميل.. أطلنا الحديث معه ولكأنه موسوعة سحرية مجانية..

إلى كارلوفيفاري تبعد مائة وعشرين كيلو مترا عن براغ.. .. هذه  المدينة محاطة بالجبال التي ترتفع خمسمائة مترا وتبدو المدينة بينها ولكأنها رشفة قهوة في قاع فنجان جميل.... 

 

أما شجرة الجلجل أو كما يسميها معجم العرب حشيشة الدينار ( ذا هوبس) حقولها تمتد على أطراف شوارعها الريفية.. بدت لنا كأشباح معلقة من رقابها بخيوط مسحوبة للأعلى.. وهي ذات نكهة مشهورة لديهم..

الى أدريشبخ... هكذا يلفظها شعبه .. .. نتوجه إليها بعد عناء ثلاث ساعات متواصلة وأحياؤها نائية..

فإذا ما رفعت رأسك قليلا منها سقطت في أراضي بولاند.. الدروب متعبة ومتعرجة...

 

نصل إلى أدرشبخ تلتف الجبال حولها بشكل لولبي حتى تسقط تتدريجيا في وسطها وأجد أشجار الصنوبر كأقلام الرصاص المثبتة  تزين جنبات شوارعها..

بدأت تلوح للعين هذه المدينة المميزه بصخورها الرملية .. متشكلة بأشكال بشر وحيوانات تستوحي منها في خيالك ما تستوحيه فتترك للمخيلة غزل نسيج الأشكال كما تشاء.. تكونت عبر السنين مذ ما يقارب الملايين من السنين.. تعتبر قيعانا للبحار من القدم حتى تحولت إلى رؤوس شامخة من الصخور الرملية المتماسكة فبدت لي من البعد القريب ولكأنها رؤوس شيوخ قبائل إجتمعت للنقاش..

الصخور متعالية متقابلة متعانقة حتى كأنك تستوحي منها أشباه أشكال للفيلة ..الدلافين.. القردة.. أشخاص تعرفهم ولا تعرفهم.. حتى أن وجه مريم العذراء بدا لي على أحد صخورها بجمال رباني أحسست حينها بقشعريرة ربانية ولكأن العذراء تعمدك عند آخر المطاف من رحلتك..

قيل لنا بأن هذه المدينة أكتشفت بعد حريق شب فيها في عام 1830 والذي أتلف غاباتها وأستمر أسابيع.. بعدها أكتشف المكان وبان سحره للزائرين..

مقسمة أرواح البشر في هذه البلد المميزة ففيها من هم ملطافون ومن هم متوحشون كشعب كارلوفيفاري.. وفيهم من هم رحبون يهدون ولا ينتظرون رد الهديه كالغرسون جون الذي إلتقينا به صدفة في قبو إحدى الفنادق المتناثرة في طرقات براغ.. كانت ضيافته مميزة وأحسست أن جدران المكان تتحدث من العتق وعندما سألته كم عمر هذا المطعم .. ضحك وقال أنتم زائروا صدفة اذا.. إن هذا المطعم سيكمل عامه الثمانمئة.. تخيل كم به من الذكريات والجمال.. هذي هي براغ وأسرارها التي لا تنتهي..

براغ يا كتاب التاريخ المقفل على صفحاته العتيقة فالبكاد تستطيع الأنامل أن تفتح أوراقك المتلاصقة من العتق..

 أما أهل  براغ فلهم من الطيبة الخشنة أفضل ممن سواها من المدن المجاورة في التشيك..

زرناك وتركت بصمة من عبق التاريخ الجميل في أرواحنا.. أنت كما أنت ستظلين منارة في تاريخ الفكر الذي يتميز به كتب التاريخ.. فطرقك وممراتك وأزقتك كلها تحكي عن جمال ذلك اليوم الجميل واللقاء والقبل والعهد للروح بأن نلتقي يوما في الماضي..


Home | Biography | Poems | Articles | Songs | News | Jenan Book Review | Contact Us