براندون



 لم يخرج براندون من جزيرته كزائر منذ ما يقارب العشرين عاما وها نحن نحضى بزيارته الفريدة من نوعها .  براندون ذلك الجندي الانجليزي الذي وطأت اقدامه هذه الجزيره قبل خمسين عاما عندما أتاها سائحا باحثا عن الحرية الروحية بعد ما قاساه من حروب..
 من على ظهر مدرعة الجيش التي تقله للمطار عائدا لاوطانه تهب عليه نسمة أحيت صدره المثقل بالهموم.. أحس أن هذه النسمة هي ما يتوق اليه..   وتهب عليه توأم تلك النسمة على شواطئ سيشل وبالاخص جزيرة ماهي..
 يذهب لشواطئها.. فيدنو منه  على شاطئها ذلك الطفل السيشيلي قائلا  : أنت تريد أن تمتلك جزيرة في سيشل؟ أجبته بقصد الدعابة نعم كيف عرفت وكان جوابي  عن طريق الدعابة وليس غير؟ قال هلم بنا أخذك لجزيرتك.. وها هو يأخذني كما كان يحدثنا وجها  لوجه بقاربه الصغير الى مويين.. وأضع عليها قدمي وتهب علي تلك النسمة التي زارتني في أيامي السابقة وانا جندي حالم بالحرية.. استنشقتها وقلت: هذي هي جزيرتي سأتملكها يوما ما..   وبالفعل إشتريتها من صاحبها.. وعشت مع صديقي تشارلي الذي شاركني كل هواياتي وحرث الارض معي وزرعها.. عشت عمرا جميلا وما زلت أعيشه.. لم أحس يوما بالوحدة الا عندما كنت أنام وانا جندي في المعسكرات وحيدا حين يذهب الرفاق في نهاية الاسبوع الى ذويهم.. أما في جزيرة مويي فأنا محاط بالطبيعة التي تحاكيني واحاكيها..

وبالسلاحف المائة وخمسة وعشرون سلحفاة أكبرها سنا عمرها يضاهي السبعين عاما.. وهي مصدر رزقي من الزوار السائحين الذين يأتون لمشاهدتها ولقائي..           
يبلغ من العمر السابعة والثمانين... قوامه مازال منصوبا به من الشموخ والكفاح..ولو أن أعوجاج الكبر قد زار ظهره.. كان يمشي الهوينا و لكأنه يحسب خطاه.. لفتت انتباهي أصابعه الطويلة ضِعف الطول الحقيقي لحجم يده وهي متجمدة أطرافها وكأنها  أطراف مِعوَل استخدمه الدهر لحرث أرض جزيرته مويين التي غرس فيها كما قال لنا  اثنتى عشرة ألف نبتة ..حيث انها كانت عبارة عن جزيرة شبه قاحلة من البشر والنبات... 

 هابني كبر أقدامه التي تضاعف  الحجم الطبيعي للبشر وقد بدت أصابعه منفرجة عن بعضها لشدة ما أستخدمها حافيه للتشبث بتراب الأرض الوعرة التي هي منه وهو منها.. اما اصابعه الثلاثة الاخيرة في القدم فقد بدت ملتحمة مع بعضها فكونت جلدا ملتصقا كأنه جناح وطاويط السيشل.. براندون يبدأ حديثه وهو في غاية اللباقة والذوق الرفيع.. يبدأ حديثه بعدما حييته نيابة عن الرفاق  وطلبت منه الحديث عن نفسه.. كان يقطع الحديث وينتقل من حديث لآخر دون أن اقاطعه ليسترسل في وصفه وذاكرته الخصبة المليئة بالذكريات.. قال:  عندي شجرة مانجو زرعتها السيدة(ماري ) التي كانت تملك الجزيرة قبلي  بمائة عام وها أنا اليوم أجني ثمارها التي سأقطفها الشهر القادم أي فبراير.. وكلما استلذ بثمرها اناجي طيف تلك السيدة قائلا ليتك تتذوقين ما حرثت..وكلما أثمرت يزورني ما يقارب الالف من وطاويط  الفاكهة التي تنقض عليها وتمتص عصير كل فاكهتها الناضجه ..



فأخرج صارخا محاكيا شغبهما ألتهمي ما تريدين وأهلا ومرحبا بك ولكن رجوتك دون إزعاج حيث قال أن صوتها وهي تتشاجر مزعج كثيرا..   دفن  في جزيرته أبيه الذي أتى من انجلترا وعاش معه ما يقارب الخمسة اعوام.. رأينا قبره الطيني المثلثي الشكل الذي بناه تأهبا لمنيته حيث قال لصاحبه مارفين ان اتيت يوما لزيارتي ولم تجدني فستجدني مستلقيا في قبري اطلب المنية.. وقد بناه  بقرب القبرين اللذين بلا اسم كتب عليهما للاسف لا يعرفان فهما لجثث مجهولة....   لم يتزوج وقد ندم على ذلك وندم لأنه لي يرزق بالأطفال   قال عندما مرض صديقي بالسرطان وهو كان شخصا بسيطا يحلم بأن يسافر الى تايلاند اخذته لذلك المكان لاحقق له حلمه... سهرنا ليلتها نشاهد مباراة لكرة القدم على التلفاز وغفوت وعندما صحوت رأيته متيقظا سألته : هل من سوء؟ قال انني اريد ان احضر فنجانا من الشاي وهرولت مسرعا استجيب لندائه واذا به يقف وفجأة يسقط على صدري ميتا.. كانت هذه احزن اللحظات فرفيق العمر والدرب قد رحل.. كان يتحدث والدمع يملأ عينيه ...   تمنيت لو يغير الحديث فلا اريد الحوار ان ينقلب الى دمع..   قلت له سيدي براندون اسمح لنا اننا حين زرنا جزيرتك فإن السيد مارفين صديقك المرشد السياحي حين عطشنا قد أسقانا من فاكهتك الجوز هندية حيث أنه أرانا كيف يفتحها بالطريقة التقليدية حيث كان يرطمها على قاعدة مدببة من الخشب الذي غرس في الارض لتلك الحاجة.. شرابها كان كالعسل لم أذقه في أي مكان في الكون.. ضحك وتراجع بجسده على المقعد مسترخيا.. اذا سأضع مارفين في السجن لجريمته الشنعاء..   براندون شخص بشوش وحديثه لا تمله.. حين سألته آخر اللقاء بماذا تنصحني.. قال كوني انت وكوني كما تريدين ليس كما يريد الغير انت سيدة طيبة وتحبين  الغير.. سألته ما الذي استطيع أن اهديه لك ضحك خجلا وبعد جهد  جهيد وعناء قال: كم احاول ان أاتي بشخص يساعد كاهلي الكهل في عمل الجزيرة وكل من يأتي يطلب العودة يوميا لجزيرة ماهي الام وتكلفة القارب تكلف الكثير يوميا.. ..  اما ابتسامته فلن أنساها أبدا... براندون سعدت بلقائك.. طبت مساء يا براندون.. وطبت مساء جميلا يا سيشل فقد وهبتنا لحظات حالمة لن انساها..       بريندون بعدها بستة أشهر ويأتيني المرسال من صاحبنا السيشيلي الذي عرفني يوما  بالسيد بريندون.. بعدها بخمس أشهر..   وفي خطابه تعابير الألم والحزن..

 يقول فيها إن السيد بريندون قد بلي بمرض السرطان وهو الآن يعيش أيامه الأخيرة مع عائلة صديقه في الجزيره الأم ماهي ..   دمعت عيناي ..  حينما تذكرت عندما كان يودعنا قبل أشهر قائلا أراكم العام المقبل إن كنت على قيد الحياة.. هل قالها وهو يشعر بقرب الموت الذي دنا منه مذ فارق صديق عمره الوفي..ولفته غيوم رغبة الموت التي ينتظرها في ذلك القبر الذي جهزه في جزيرته  لجسده حين يرحل من الدنيا؟؟   قد يستغرب القارئ لماذا تعلقي بهذه الشخصيه؟؟ إن روحه التي سيطرت على عقله بإتخاذ القرار الذي هو يريده وليس ما يريده الغير.. هذا ما جذبني لفكره..فقد ذكرني بشخصية زوربا الكريتي المحب للحياة.. لا أنسى حين  سألته النصيحة قال: كوني كما أنت تريدين وليس كما يريد الغير..       أحاول الإتصال به مرارا وقت مرضه للإطمئنان عليه .. حتى أجابني يوما وهو يتعثر بكلماته متمتما بكلمات لم أفهمها.. أحاول التعريف بنفسي .. ولكن المرض قد شل تفكيره والتركيز ..يردد هذه العبارات: الكنيسة . السيارة. الناس. البحر. ولا أفهم باقي ما يريد أن يقول.. حتى ينقطع الخط..   في اليوم التالي يأتيني إتصال منه عدة مرات وحين أمسكت بالخط رحبت به.. فقال لي وهو يزمجر لماذا لا تضعين لي موسيقى هادئة أريد أن أسمعها الآن وبسرعه.. أستغرب الطلب ..ولكن  أدركت حينها أنها هلوسة المرض ولم يكن بجانبي أي جهاز لأسمعه ما يريد.. حتى أسعفتني صديقتي بهاتفها وصادف الحظ أن تكون أغنية بينك مارتيني لا سوليداد الحالمة..   يستمع إليها وأسمع تنهداته  وأنا أحس أنه يتمايل مع اللحن ..وإنتهت المكالمة بانتهاء الأغنية لأنني أيقنت أنها رغبته الأخيرة قبل الموت.. وبعد أيام يأتيني خبر إنتقاله للرحمن ودفنه في قبره الذي جهزه لنفسه في جنازة مصغرة كما كانت رغبته وبحضور قليل من الأهل والرفقة المخلصة..   حزنت عليك يا براندون ودعيت لك الرحمن أن يريح جسدك في قبرك فأنت كنت سلام ومحبة للطبيعة والبشر وحتى الحيوانات الزائرة لجزيرتك.. سالت لفراقك دموع أهالي السيشل فقد كنت مصدر رزق لسياحتهم..
 

http://news.nationalpost.com/2012/04/26/moyenne-island-brendon-grimshaw





صور بعدسة جنان


الرئيسية | جنان في سطور | القصــائــــد | مقالات | التسجيلات | أخبار جـنان | قراءة في ديوان جنان | اتصل بنا